نقد فكر الخمر في منهج الفقهاء
لقد ابتدع الأقدمون وهمًا أسموه التدرج في تحريم الخمر على النحو الذي وردت به الآيات حيث يقول تعالى:
1ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ....}النساء43
2ـ{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }البقرة219.
3ـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }المائدة90.
وسبب وقوعهم في الوهم، عدم فهم أن الخمر كانت محرمة قبل الإسلام، فلا يمكن أن تُباح إبان رسالة محمد ثم يتم التدرج في تحريمها كما يزعمون، ولقد أنزل الله سبحانه التحريم في سورة مكية، بينما كل الآيات السابقة مدنية، وتلك الآية المكية التي تحرم الخمر هي:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }الأعراف33.
1. فإذا كان الله حرّم الفواحش والإثم، وبالطبع فإن التحريم هنا يشمل كبير الإثم وصغيره ـ وكان ذلك بمكة، فكيف يتصورون ذم الله للخمر والميسر بأن فيهما إثم كبير (آية رقم 2) ويتصورون في الصحابة أنهم فهموا إباحة شربها، إن كانوا يشربونها أصلا.
2. وكيف يكون بها إثم كبير، ويظن أهل الفقه بأن الصحابة الأوائل تعلقوا بما فيها من منفعة قليلة ولم يهمهم ما بها من إثم كبير، وقد تكون تلك المنفعة في الإتجار بها وليس في معاقرتها بالشرب منها، أليس ذلك بظن سوء بالصحابة رضوان الله عليهم؟!.
3. ألم تكونوا تقولوا بأن الصحابة كانوا يتركون تِسعٌ وتسعون بابا من الحلال خشية أن يقعوا في بابا واحدا من الحرام، فكيف ترد الآية رقم 2 وتقول بأن الخمر فيها إثم كبير ثم يعاقر الصحابة الخمر، أليس هذا بظن سيئ في الصحابة، وهل ثبت أن أحدهم بعينه كان يعاقر الخمر؟!، أم هي ظنون أصحاب الظنون.
4. ثم حين ارتأى الفقهاء ـ الذين لا فضل لهم في اللغة العربية ولا النحو ـ أن يقولوا بتحريم الخمر فقالوا بأن التعبير القرءاني (فاجتنبوه) هو أشد التحريم فانتهى الصحابة عن معاقرة الخمر، أي أن الصحابة قاموا بكل الغزوات والعبادات والجهاد وهم أهل سكر ومعاقرة خمر.
وسبب ذكري عدم فضل الفقهاء في اللغة والنحو هو أن سيبويه الفارسي هو الذي وضع قواعد علم النحو العربي، وبالتالي فهو أقدر الناس لفهم اللغة العربية، وليس الفقهاء، لذلك أرجو عدم توهم معنى مخصوص لكلمة بعينها وتحميلها معنى يريده الفقيه ولا يريده الله.
5. فمعنى الاجتناب مثل لا تتبعوا خطوات الشيطان، أي لا تجلس بمكان به خمر، ولا تشارك في صناعة الخمر، وهو ما عَبّر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث المشهور عن لعن حاملها والمحمولة إليه وعاصرها ومعتصرها...الخ.
6. وهل كان الصحابة رضوان الله عليهم ينتظروا أشد التحريم حتى ينتهوا؟.
7. ومن عجيب قولهم بأنه لما نزلت الآية (فاجتنبوه) صارت طرقات المدينة أنهارا من الخمر، ألا يستحي هؤلاء الفقهاء من قولهم هذا، وهل كانت الخمر بكل هذه الكثرة في بيوت الصحابة حتى تصير الطرقات أنهارا من خمر؟، ألم تكن طرقات المدينة من تراب فكيف لم يمتص التراب أو الرمال كميات الخمر مهما كانت كمياتها، لست أدري سبب تلك التشبيهات الخرقاء.
8. أما الآية الأولى التي تصورونها تُبيح السُّكر في غير أوقات الصلاة، ففكرهم عنها يُعبّر عن فضيحة، لأن الآية لا تتحدث عن الخمر البتة، لكنهم بمجرد أن رأوا كلمة (سكارى) حتى قفز فكرهم إلى الخمر، وكأن السكر قرين الخمر، ويعني منطقهم أنه من الممكن أن يصلي الإنسان وهو شارب للخمر ولم يصل لحد السكر؟!، ولم يدر بخلدهم أن السكر قد يكون من العذاب، وقد يكون من التعب، والسكر الذي تعنيه الآية هو الذهول وشرود الفكر، كمن ينشغل بأمر ما ثم يُقدم على الصلاة وهو مهموم بذلك الأمر أكثر من انشغاله بالصلاة فذلكم هو السكر الذي تعنيه الآية.
9. وهل كان الخمر حلالا في شرع من قبلنا حتى يتدرج القرءان في تحريمه، لقد كان الخمر محرما في التوراة فكيف نتصور بانه لم يكن محرما منذ أول رسالة محمد.
10. ومن بين أخطاء الفقهاء في تأويل كلمة (سُكر)، أنهم تصوروا أنها هي ذاتها كلمة (سَكَرَ)، فتخيلوا أن قوله تعالى:[ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا]، يعني به السُكر، وما هو كذلك، وإلا ما قال الله تعالى عنه انه [رزقا حسنا]، فقد كان يعني عصير الفواكه في مرحلة ما قبل التخمر، فهو الرزق الحسن، ولم يعني ما توهموه بأنه المسكر من التخمر، والأحاديث النبوية في هذا الشأن تؤكد بأن النبي كان يشرب العصير إلا إن تغيَّر طعمه بالتخمر فكان يعافه.
وهل تدرج التشريع في فرض الصوم على المسلمين، وهل تدرج التشريع في فرض بعض مناسك الحج كالسعي بين الصفا والمروة وخاصة للعجائز، أو تغاضى عن المبيت في منى؟.
إن الذين يقولون بالتدرج في تحريم الخمر إنما هم يخدمون فكرة عندهم هي أشد سوءا من التدرج في التحريم، ألا وهي فكرة الناسخ والمنسوخ، تلك الفكرة التي نبعت عن عدم فهم الأوائل للقرءان فراحوا يقولوا بالنسخ في القرءان، وقام كل فقيه بإلغاء وتعطيل بعض الآيات التي لم يفهم مراد الله منها، وبعد أن تشتت الفقهاء جاء من بعدهم فجمع ذلك الشتات وتلك الاختلافات وسماها علم الناسخ والمنسوخ، هذا إلى غير فضائح كثيرة أخرى في هذا الصدد لا مقام لها بموضوعنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبعد: لقد كانت تلك البراهين التسعة وما حولها دليلي انتفاء الزَّعم بالتدرج في تحريم أُمُّ الكبائر، وهل يعمل الله حساب ويهتم بمشاعر السكارى فيقيم شريعته على منوال أناس شذوا عن السوية الاجتماعية وفطرة الله التي فطر الناس عليها؟!.
مستشار/أحمد عبده ماهر
محام بالنقض ومحكم دولي وباحث إسلامي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق