موروثات جنسية
اسمحوا لي أن أستطرد البيان في رفض ما جاءت به التفاسير عن قوله تعالى (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) 55 يس؛ حيث ورد بأن شغلهم افتضاض عذرية الأبكار تحت الأشجار على شواطئ الأنهار، وهو ما أرفضه جملة وتفصيلا، فشغل أهل الجنة أرقى وأجل وأعمق وأعلا بكثير من شهوات جنسية مع العذارى.
ويقول دعاة السلفية ترويجا لمنهجهم من انه القرءان والسنة بفهم سلف الأمة، وإن كنت لا أعرف أين ينتهي بهم مطاف تعبير سلف الأمة، فهل كل القدماء منذ عصر الصحابة وحتى مائة سنة سابقة أم حتى القرن الثالث الهجري أم ماذا، فكلمة سلف الأمة كلمة مطاطة، وإن كان المقصود هم الصحابة رضوان الله عليهم فإن الصحابة الأجلاء لم يورثوا مكتوبا يمكن الاعتماد عليه، وإن ما بأيدينا عنهم أمور منسوبة لهم والله أعلم بصحتها.
وما يعنيني هو تعبير (فهم سلف الأمة)، فسلفنا القديم كان لا يتحرج في غالبه أن يضع الحديث على رسول الله، ولم يكن بالأمة هيئات تحفظ على العلماء علمهم، وبذلك تم الدس على كل تراثنا، وحتى كتاب البخاري لم يسلم من هذا الدس، وتم الدس بالمراجع الأخرى تحت مسمى قال بن مسعود وابن عباس والأعمش وابن قتيبة وهكذا؛ لقد استطاع أهل الدس وباستغلال عواطفنا ونهجنا لتقديس القديم والقدماء أن يبثوا سموم الغدر في الحديث النبوي وتفسير القرءان والتراث البشري عموما، فإذا ما أضفت لهذا كله اختلاف العلماء في كل المسائل تقريبا، فإننا نكون بصدد صورة مشوشة وغير محددة عن تعبير (فهم سلف الأمة).
وحيث لم تملك أقوال الصحابة من العناية ما تميز به الحديث النبوي، فلقد احتلت مفاهيم منسوب صدورها للأجلاء مكان الصدارة في عقولنا حتى صارت إرثا تتناقله الأجيال ومنها ما هو فهم جنسي نابع عن شبق غريزي لأنفس ما ارتوت من العلم والفقه قدر رويتها من الهوى والمزاج.
فتجدنا بمجرد أن يُذكر تعبير (الحور العين) إلا ويقفز للعقل المسلم مخيلة بنات الهوى والعملية الجنسية، وما ذلك إلا موروث عن فهم سلف الأمة الذي كان يجب أن يوضع موضع التمحيص مثل حديث الرسول تماما بتمام، لكن لأن العلم لم يكن من خصائص الأمة وإن اشتغل به البعض لذلك تجد تلك المفاهيم قد تناقلتها الأجيال لتجد من يروج لها من أصحاب اللحى الذين يقولون بأنهم على القرءان والسنة بفهم سلف الأمة.
إن الله خلق الزوجين الذكر والأنثى سواء بسواء، فهل جُعلت المرأة لمتعة الرجل ولم يجعل الرجل لمتعة المرأة؟!، وهل ميّز الله الرجل جنسيا بالآخرة فجعل له الحور العين بالجنة وضاعف له الفحولة للاستمتاع بهن، بينما لم يجعل للمرأة بالجنة إلا رجلا واحدا، إن أصحاب هذا الفكر الموروث يسحبون قانون وشهوات الدنيا ليتخيلوها ويختالوا بها على انها تكون بالآخرة، أيكون قانون الحياة هو ذاته قانون الآخرة...بالطبع لا، لأن قانون الدنيا به تكليف وممنوعات ومحرمات بينما الآخرة سداح أكثر من المداح، لذلك فإن تلك المخيلات إنما أصابها عطب الدنيا فشرحت به أمور الآخرة، ثم اعتبرنا نحن قولهم دينا.
وهل تعبير (فجعلناهن أبكارا) تعني غشاء البكارة؟!.
وهل تعبير (لم يطمثهن قبلهم إنس ولا جان) يعني عملية الجماع بين الجنسين، أو يعني دم الطمث الفاسد عند الأنثى.
إن هذه موروثاتنا التي تتقافز إلى مخيلات السلفيين ليدينوا بها وهم يفخرون بمذهبهم المنتمي إليها، بل تقفز لمخيلة الجميع حين تلاوتهم للقرءان، فهي بالتراكيب المخية للأمة، فهل يا ترى نحن أسرى لتلك المفاهيم، وهل لا يوجد تأويل أكثر عمقا، وأكثر رقيا، وأنسب للسياق القرءاني من تلك الموروثات الجنسية، أم ان مفهوم السلف (وإن صح) يعتبر دينا وقيدا على القرءان وعلى الأمة إلى يوم القيامة، وبخاصة ان وراءه جماعات ودول ترعى ذلك الفكر تحت ستار مصطلح (فهم السلف) وتجعله أمرا مقدسا.
لـذلك
يجب العودة للجذر الجنسي المتسبب لتلك المخيلات الجنسية، ألا وهو تعبير (الحور العين) لنقف تحديدا عما إذا كانت إناث تحتاج لفحولة المسلمين عامة والعرب منهم خاصة، أم هي أمر آخر.
يقول تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ }الدخان54.
ويقول تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ }الطور20.
ويقول تعالى بسورة الواقعة: { وَحُورٌ عِينٌ{22} كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ{23}.
ويقول تعالى في سورة الرحمن: { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ{68} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{69} فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ{70} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{71} حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ{72} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ{73} لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ{74}
فمن الآيات السابقة لا يجد القارئ كلمة الجنس الآخر إلا حين يفسر كلمة (وزوجناهم) على انها زواج النكاح.
ويا ترى لماذا كان السياق القرءاني بسورة الرحمن يستخدم كلمة (فِيهِمَا) للفاكهة بالآية 68، لأن الله كان يتكلم على أن لكل مؤمن خاف مقام ربه جنتان.
لكنك تجد اختلاف بالسياق بالآية التي تليها مباشرة حيث ترد كلمة(فِيهِنَّ) للخيرات الحسان، لأنه كان يتكلم عن ان الجنتان الأوليان تحتهما جنتان أخريان من دونهما، والأربعة جنات فيهن خيرات، فهل يُطلق على الإناث لفظة (خيرات)، أم (خيِّرات) بتشديد حرف الياء، أو (أخيار)، فتلكم هي أصول اللغة التي لا يتوه عنها القرءان.
أم يا ترى هل الحور العين جنس غير الإنس والجن والملائكة، وإذا كانت جنسا رابعا ففيم الغيرة أن يكون للرجل حور عين وللمرأة أيضا، أم لا زلنا نتربص بفرج المرأة ولا نتربص بفرج الرجل بذات القدر حتى في الآخرة.
ونحن ندرك بأن الحور العين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فإذا أكلها المؤمن أو المؤمنة أو ارتداها إن كانت لباسا يتسربل به أهل الجنة فإن المؤمنين والمؤمنات يجدوا أنفسهم وقد سعى نورهم بين أيديهم، وذلك من قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }الحديد12.
بل يستهدف أهل الجنة النور بالآخرة التي ستشرق بنور بها، حيث يقول تعالى:{ ... يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }التحريم8.
لذلك فالتلألؤ، والنور، وإتمام النور، أمر يصير إليه أتباع رضوان الله، ويسعون إليه ولا يسعون بحال لواقع جنسي ضحل، فإذا أضفنا لذلك قوله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }ق35؛ فإن ما يشاءون فيها ليس العملية الجنسية إنما إتمام النور، وتعبير (ولدينا مزيد) يعني أنه لا سقف للمتعة حتى نهبط بها لحيوانية الشهوة الدنيوية، كما أن كلمة (لهم) تعني الرجال والنساء.
كما ان عملية تصور أن تفسير قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ }يس55؛ انه فض الأبكار تحت الأشجار على شاطئ الأنهار، كما ورد ذلك بكثير من مراجع السلف، فهو إنما يعبر عن انحطاط الهمم الدنيوية التي تتقافز بشهواتها لتجعلها سقفا لمتعة الآخرة، فإذا علمنا أن تلك العملية تتم بما سماه الله (السوأة)، وحيث أن جنة الآخرة ليس بها سوءات، لذلك فإن قوانين الالتذاذ غير تلك القواعد الهابطة الموجودة بالدنيا التي لا تساوي كلها عند الله جناح بعوضة، فكيف تكون صبابة وصبوة المؤمن بالآخرة كتلك البضعة التي كان يضعها بالدنيا ويغتسل منها، إنه الهبوط الفكري بعينه.
إن خلقتنا بالآخرة لن تكون بمثل خلقتنا الدنيوية، ولا صبوتنا أيضا، وذلك لقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }العنكبوت 20
وقوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }ق15
وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }العنكبوت20.
فالنشأة الأخرى والخلق الجديد لهم مكونات وهمم ومآرب غير تلك التي كانت بالدنيا، فلا يجوز المقاربة بينهما، كما لا يجوز أن يتصور المسلم ان الاتكاء في قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ }الطور20. يكون على الكوع أو الساعد، أما التزويج فلا يعني النكاح، لكن التزويج يعني الملازمة بما يجعل من ينظر إلينا تقر عينه حين يرانا، فهكذا يكون التزويج.
وموضوع الزواج نقول فيه، بأنه ليس كل زواج أو زوج يعتبر نكاحا، وآيتنا في ذلك قوله تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ }يس56؛ فتعبير (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ) لا يعني بحال أزواج الدنيا لكن يعني أشباهنا من أهل الإيمان بالدنيا، وإلا دخل فرعون الجنة مع زوجته، أو دخلت هي النار معه، لقوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ }الصافات22؛ وهكذا لا يجب أن نصرف الزواج على انه النكاح حتما وإلا فسد فهمنا لكتاب الله.
وكلمة (أبكارا) ليست هي غشاء البكارة وآيتنا في ذلك قوله تعالى في سورة الواقعة: { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ{32} لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ{33} وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ{34} إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء{35} فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً{36} عُرُباً أَتْرَاباً{37} لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ{38}؛ فالله جعل الفاكهة أبكارا وليس بالأمر فرج لبنات أو مساء أو حور.
وحتى كلمة (كواعب) إنما تطلق مجازا في الدنيا على بعض الرقيقات من الإناث، لكنها في أصلها تطلق على كل ناعم، وهي في السياق القرءاني أطلقت على نعيم الجنة ولم يذكر الله بأنها حور عين فهل نستنتج انها بنات في عمر واحد لهن أثداء شكلها وحجمها متساو، كما تقول بذلك تفاسيرنا، وتدبر قوله تعالى بسورة النبأ: { حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً{32} وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً{33} وَكَأْساً دِهَاقاً{34} ؛ فأين الحور العين هنا، ولماذا لا تكون الخيرات الحسان السابق التنويه عنها والتي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم[فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر] فهل نكاح البنات الصغيرات الأبكار مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟!.
أما تعبير قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ }الرحمن74؛ فلا يعني عملية الجماع بين الجنسين، ولا يعني دم الطمث الفاسد عند الأنثى، فالطمث عادة الإناث سواء كن بنات أم سيدات، فتعبير {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} لا يعني بحال أمر النكاح إلا عند أصحاب الشبق، وقد يعني الطمث معنى المس، وهذا لا يعني النكاح أيضا، فيمكنك أن تمس الثمرات، وتمس الثوب، ....وهكذا.
وعموما وعلى أي تقدير كان فإن الأمر إن انصرف إلى حور عين بمعنى الجنس، وزواج بمعنى النكاح فإن للذكر مثل حظ الأنثى تماما بتمام، وليس في الأمر غيرة من أحد على أحد لأن الحور جنس رابع كما أسلفنا، ولأن الله ينزع الغل من صدور أهل الجنة، لقوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ }الحجر47؛ لكن لن يكون شغل أهل الجنة فض أغشية الأبكار تحت الأشجار على شواطئ الأنهار.
مستشار/أحمد عبده ماهر
محام بالنقض ومحكم دولي وكاتب إسلامي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق